فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة قريش:

.تفسير الآيات (1- 4):

{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
قلت: {لإيلافِ}: متعلق بقوله: {فليعبدوا}، والفاء لِما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: أنَّ نعم الله تعالى على قريش غير محصورة، فإن لم يَعبدوا لسائر نِعَمه فليعبدوا لإيلافهم الرحلتين، وجاز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها؛ لانها زائدة غير عاطفة، ولو كانت عاطفة لم يجز التقديم وقيل: يتعلق بمُضمر أي: فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش، وقيل: بما قبله من قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5]، ويؤيده: أنهما في مصحف أُبيّ سورة واحدة بلا فصل، والمعنى: أهلك مَن قصدهم مِن الحبشة ليتسامع الناس بذلك؛ فيتهيبوا لهم زيادة تهيُّب ويحترموهم فضل احترام حتى يتنظم لهم الأمن في رحلتيهم.
يقول الحق جلّ جلاله: {لإِيلافِ قريشٍ} أي: فلتعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافهم الرحتلين، وكانت لقريش رحلتان، يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتّجرون، وكانوا في رحلتهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته العزيز فلا يُتَعرّض لهم، والناس بين مختطف ومنهوب. والإيلاف: مصدر، من قولهم: ألفت المكان إيلافاً وإلافاً وإلفاً. وقريش: ولد النضر بن كنانة، وقيل: ولد فهر بن مالك، سُمُّوا بتصغير القِرْش، وهو دابة عظيمة في البَحر، تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار، والتصغير للتفخيم، سُمُّوا بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيهاً بها. وقيل: مِن القَرْش، وهو الجمع والكسب؛ لأنهم كانوا كسّابين بتجارتهم وضربهم في البلاد.
وقوله تعالى: {إِيلافهم رحلةَ الشتاءِ والصيف} بدل من الأول، أطلق الإيلاف، ثم أبدل منه المقيّد بالرحلتين تفخيماً لأمر الإيلاف، وتذكيراً لعظيم هذه النعمة. و{رحلة}: مفعول بإيلاف وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس.
{فليعبدوا رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهم} بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منها بواسطة كونهم من جيرانه، {من جوعٍ} شديد كانوا فيه قبلهما. قال الكلبي: أول مَن حمل السمراء من الشام ورحل إليها: هاشم بن عبد مناف. اهـ. ولمّا بعث اللهُ نبيه، الذي هو نبي الرحمة، وأسلمت قريش، أراح اللهُ الناسَ من تعب الرحلتين، وجلبت إلى مكة الأرزاق من كل جانب، ببركة طلعته صلى الله عليه وسلم. قال مالك بن دينار: ما سقطت أُمة من عين الله إلاّ ضرب أكبادهم بالجوع. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع» والمذموم هو الجوع المفرط، الذي لم يصحبه في الباطن قوة ولا تأييد، وإلاَّ فالجوع ممدوح عند الصوفية، أعني الوسط.
ثم قال تعالى: {وآمنهم من خوف} أي: من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل، أو: من خوف الناس في أسفارهم أو: من القحط في بلدهم. وقيل: كان أصابتهم شدة حتى أكلوا الجِيَف والعظام المحرقة، فرفعه الله عنهم بدعوته صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى: {أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}، وقيل: الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام بقوله: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] الآية.
الإشارة: كما أمَّن اللهُ أهل بيته أمَّن أهل نسبته، فلا تجد فقيراً متجرداً إلاّ آمناً حيث ذهب، والناس يُختطفون من حوله. قلت: وقد رأينا هذا الأمر عامَ حصر سلامة على تطوان، فكان كل مَن خرج من تطوان يُنتهب أو يُقتل، ونحن نذهب حيث شئنا آمنين بحفظ الله، وهذا إذا لبسوا زي أهل النسبة، من المُرقَّعة والسبحة والعصا، فإن ترك زيَّه وأُخذ فقد ظلم نفسه، وقد ترك بعضُ الفقراء زيَّه، وسافر فتكشّط فقال له شيخه: أنت فرَّطت، والمفرط أولى بالخسارة. اهـ. ويُقال لأهل النسبة: فليعبدوا رَبَّ هذا البيت، أي: بيت الحضرة التي طلبتموها، أو: بيت النسبة التي سكنتم فيها، الذي أطعمكم من جوعٍ، حيثما توجتهم، مائدتكم منصوبة، وآمنكم من خوفٍ حيث سِرتم. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة الماعون:

.تفسير الآيات (1- 7):

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أرأيت الذي يُكذِّبُ بالدين} استفهام أُريد به تشويق السامع إلى معرفة مَن سبق له الكلام والتعجب منه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع. والرؤية بمعنى المعرفة، والفاء في قوله: {فذلك الذي يَدُعْ اليتيمَ}: جواب شرط محذوف، والمعنى: هل عرفتَ هذا الذي يُكذِّب بالجزاء أو بالإسلام، فإنْ أردت أن تعرفه فهو الذي يَدُعُّ أي: يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً، ويزجره زجراً قبيحاً، قيل: هو أبو جهل، كان وصيًّا ليتيم، فأتاه عُرياناً يسأله مِن مال نفسه فدفعه دفعاً شديداً وقيل: هو الوليد بن المغيرة، وقيل: العاص بن وائل. وقيل: أبو سفيان، نحر جزوراً فسأله يتيمٌ لحماً فقرعه بعصاه، وقيل: على عمومه. وقرئ: {يَدَع} أي: يتركه ويجفوه. {ولا يَحُضُّ} أهلَه وغيرهم من الموسرين {على طعام المسكين} فأَولى هو لا يُطعمه، جعل علامة التكذيب بالجزاء: منع المعروف، والإقدام على أذى الضعيف؛ إذ لو آمن بالجزاء، وأيقن بالوعيد، لخشي عقاب الله وغضبه.
{فويل للمُصَلِّين الذي هم عن صلاتهم ساهون} غير مبالين بها، {الذين هم يُراؤون} الناس بأعمالهم، ليُمدحوا عليها، {ويمنعونَ الماعونَ} أي: الزكاة. نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يسهون عن فعل الصلاة، أي: لا يُبالون بها، لأنهم لا يعتقدون وجوبها.
قال الكواشي عن بعضهم: ليس المراد السهو الواقع في الصلاة الذي لا يكاد يخلو منه مسلم، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يسهو، ويُعضد هذا ما رُوي عن أنس أنه قال: الحمد لله الذي لم يقل في صلاتهم لأنهم لمّا قال: {عن صلاتهم} كان المعنى: أنهم ساهون عنها سهو ترك وقلة مبالاة والتفات إليها ولو قال في صلاتهم كان المعنى: أنّ السهو يعتريهم وهم في الصلاة، والخلوص من هذا شديد. وقيل {عن} بمعنى في، أي: في صلاتهم ساهون. ثم قال عن ابن عطاء: ليس في القرآن وعيد صعب إلاّ وبعده وعيد لطيف، غير قوله: {فويل للمصلِّين..} الآية، ذكل الويل لمَن صلاّها بلا حضور في قلبه، فكيف بمَن تركها رأساً؟ فقيل له: ما الصلاة؟ فقال: الاتصال بالله من حيث لا يعلم إلاّ الله. ثم قال الكواشي: ومما يدل على أنَّ مَن شَرَعَ في الصلاة خالصاً لله، واعترضه السهو مع تعظيمه للصلاة ولشرائع الإسلام، ليس بداخل مع هؤلاء: أنه وصفهم بقوله: {الذين هم يراؤون}. ثم قال: وفي اجتناب الرياء صُعوبة عظيمة، وفي الحديث: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على المسح الأسود» وقال بعضهم: هم الذين لا يُخلصون لله عملاً، ولا يُطالبون أنفسهم بحقيقة الإخلاص ولا يَرِد عليهم وارد من ربهم يقطعهم عن رؤية الخلق والتزيُّن لهم. اهـ.
{ويمنعون الماعُونَ} قيل: الماعون: كل ما يُرتفق به، كالفأس والماء والنار، ونحوها، أي: الماعون المعروف كله، حتى القِدْر والقصعة، أو: ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار، قالوا: ومَنْع هذه الأشياء محظور شرعاً، إذا استعيرت عن ضرورة، وقُبْح في المروءة إذا استعيرت في غير حال الاضطرار. قال عكرمة: ليس الويل لمَن منع هذه الأشياء، إنما الويل لمَن جمعها فراءى في صلاته وسهى عنها ومَنَع هذه الأشياء. اهـ.
قال ابن عزيز: الماعون في الجاهلية: كل عطية ومنفعة، والماعون في الإسلام: الزكاة والطاعة، وقيل: هو ما ينتفع به المسلم من أخيه، كالعارية والإغاثة ونحوهما، وقيل: الماعون: الماء، نقله الفراء، وفي البخاري: الماعون: المعروف كله، أعلاه الزكاة، وأدناه عارية المتاع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الدين هو إحراز الإسلام والإيمان والإحسان، فمَن جمع هذه الثلاث تخلّص باطنه، فكان فيه الشفقة والرأفة والكرم والسخاء، وتحقق بمقام الإخلاص، وذاق حلاوة المعاملة وأمّا مَن لم يظفر بمقام الإحسان فلا يخلو باطنه من عُنف وبُخل ودقيق رياء، ربما يصدق عليه قوله تعالى: {أرأيت الذي يُكذِّب بالدين فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم..} إلخ. وقال القشيري في قوله تعالى: {فويل للمُصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون}: يُشير إلى المحجوبين عن أسرار الصلاة ودقائقها، الساهين عن شهود مطالعها وطرائقها الغافلين الجاهلين عن علومها وأحكامها، {الذين هم يُراؤون} في أعمالهم وأحوالهم، بنسبتها وإضافتها إلى أنفسهم الظلمانية، {ويمنعون الماعون} أي: ما يُفيد السالك إلى طريق الحق، من الإرشاد والنُصح، وانظر عبارته نقلتها بالمعنى. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة الكوثر:

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا أعطيناك الكوثرَ} أي: الخير الكثير، مَن شرف النبوة الجامعة لخير الدارين، والرئاسة العامة، وسعادة الدنيا والآخرة فَوْعل من الكثرة، وقيل: هو نهر في الجنة، أحلى من العسل، وأشد بياضاً منَ اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، حافتاه: اللؤلؤ والزبرجد، وأوانيه من فضّةٍ عدد نجوم السماء، لا يظمأ مَن شرب منه أبداً، وأول وارديه: فقراء المهاجرين، الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذي لا يتزوّجون المنعَّمات، ولا يفتح لهم أبواب الشُدد أي: أبواب الملوك لخمولهم، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبرَّه. اهـ.
وفسَّره ابن عباس بالخير الكثير، فقيل له: إنَّ الناس يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: النهر من ذلك الخير، وقيل: هو: كثرة أولاده وأتباعه، أو علماء أمته، أو: القرآن الحاوي لخيَري الدنيا والدين.
رُوي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فبماذا خصصتني؟» فنزلت: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6]، فلم يكتفِ بذلك، فنزلت: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} فلم يكتفِ بذلك، وحُقَّ له ألاَّ يكتفي؛ لأنَّ القناعة من الله حرمان، والركون إلى الحال يقطع المزيد، فنزل جبريلُ وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله تبارك وتعالى يقرئك السلام، ويقول لك: إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فقد اتخذتك حبيباً، فوعزتي وجلالي لأختارن حبيبي على خليلي وكليمي، فسكن صلى الله عليه وسلم.
والفاء في قوله: {فَصَلِّ لربك وانْحَرْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يُعطها ولن يُعطها أحد من العالمين، مستوجبة للمأمور به أيّ استيجاب أي: فدُم على الصلاة لربك، الذي أفاض عليك هذه النِعم الجليلة، التي لا تُضاهيها نعمة، خالصاً لوجهه، خلافاً للساهين المرائين فيها، لتقوم بحقوق شكرها، فإنَّ الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر. {وانْحَرْ} البُدن، التي هي خيار أموال العرب، وتصدَّق على المحاويج خلافاً لمَن يَدَعَهم ويمنعهم ويمنع عنهم الماعون، وعن عطية: هي صلاة الفجر بجَمْعٍ، والنحر بمِنى، وقيل: صلاة العيد والضَحية، وقيل: هي جنس الصلاة، والنحر وضْعُ اليمين على الشمال تحت نحره. وقيل: هو أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وعن ابن عباس: استقبل القبلة بنحرك، أي: في الصلاة. وقاله الفراء والكلبي.
{إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مُبغضك كانئاً مَن كان {هو الأبْتَرُ} الذي لا عَقِب له، حيث لم يبق له نسْل، ولا حُسن ذكر، وأمّا أنت فتبقى ذريتك، وحُسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، لأنَّ كل مَن يُولد مِن المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذِكْرك مرفوع على المنابر، وعلى لسان كل عالم وذاكر، إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويُثني بذكرك، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان، فمثلك لا يقال فيه أبتر إنما الأبتر شانئك المَنْسي في الدنيا والآخرة.
قيل: نزلت في العاص بن وائل، كان يُسَمِّي النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه عبد الله: أبتر، ووقف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: مع مَن كنت واقفاً؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكذلك سمّته قريش أبتر وصُنبوراً، ولمّا قَدِمَ كعب بن الأشرف لعنه الله لمكة، يُحرِّض قريشاً عليه صلى الله عليه وسلم قالوا له: نحن أهل السِّقايةِ والسِّدَانة، وأنت سَيِّدُ أهل المدينة، فنحن خير أمْ هذا الصنبور المُنْبَتِر من قومه؟ فقال: أنتم خير، فنزلت في كعب: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت..} [النساء: 51]، الآية، ونزلت فيهم: {إن شانئك هو الأبتر}.
الإشارة: يُقال لخليفة الرسول، الذي تَخلَّق بخُلقه، وكان على قدمه: إنَّا أعطيناك الكوثر: الخير الكثير، لأنَّ مَن ظفر بمعرفة الله فقد حاز الخير كله «ماذا فقد مَن وجدك» فَصَلّ لربك صلاة القلوب، وانحر نفسك وهواك، إنَّ شانئك ومُبغضك هو الأبتر وأمَّا أنت فذكرك دائم وحياتك لا تنقطع لإنَّ موت أهل التُقى حياة لا فناء بعدها. وقال الجنيد: إن شانئك هو الأبتر، إي: المنقطع عن بلوغ أمله فيك. اهـ. وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله.

.سورة الكافرون:

.تفسير الآيات (1- 6):

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قل يا أيها الكافرون} المخاطَبون كفرة مخصوصون، عَلِمَ الله أنهم لا يُؤمنون. رُوي أنَّ رهطاً من صناديد قريش قالوا: يا محمد هلم تتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان دينك خيراً شَرَكْناك فيه، وإن كان ديننا خيراً شركتنا في أمرنا، فقال: «معاذ الله أن نُشرك بالله غيره» فنزلت فغدا إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم، فأيسوا.
أي: قل لهم: {لا أعْبُدُ ما تعبدون} فيما يُستقبل؛ لأنَّ {لا} إذا دخلت على المضارع خلصته للاستقبال أي: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، {ولا أنتم عابدون ما أعبدُ} أي: ولا أنتم فاعلون في الحال ما أطلب منكم من عبادة إلهي، {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي: وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، ولم يعهد مني عبادة صنم، فكيف يرجى مني في الإسلام؟ {ولا أنتم عابدون ما أعبدُ} أي: وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته. وقيل: إنَّ هاتين الجملتين لنفي العبادة حالاً، كما أنَّ الأوليين لنفيها استقبالاً. وإيثار {ما} في {ما أعبد} على من؛ لأنَّ المراد هو الوصف، كأنه قيل: ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يُقادر قدر عظمته. وقيل {ما} مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي، وقيل: الأوليان بمعنى الذي، والأخريان مصدريتان.
وقوله تعالى: {لكم دينكُم وليَ دِينِ} تقرير لِما تقدّم، والمعنى: إنَّ دينكم الفاسد، الذي هو الإشراك، مقصور عليكم، لا يتجاوزه إلى الحصول ليّ، كما تطمعون فيه، فلا تُعلِّقوا به أطماعكم الفارغة، فإنَّ ذلك من المحالات، كما أنَّ ديني الحق لا يتجاوزني إليكم، لِما سبق لكم من الشقاء. والقصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتماً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا طلبت العامةٌ المريدَ بالرجوع، إلى الدنيا والاشتغال بها، يُقال له: قل يا أيها الكافرون بطريق التجريد، والتي هي سبب حصول التوحيد والتفريد، لا أعبدُ ما تعبدون من الدينا وحظوظها، أي: لا أرجع إليها فيما يُستقبل من الزمان، ولا أنتم عابدون ما أعبدُ من إفراد الحق بالمحبة والعبادة، أي: لا تقدرون على ذلك، ولا أنا عابد ما عبدتم من الدنيا في الحال، لكم دينكم المبني على تعب الأسباب، وليَ ديني المبني على التعلُّق بمسبِّب الأسباب، أو لكم دينكم المكدّر بالوساوس والخواطر والأوهام، ولي ديني الخالص الصافي، المبني على تربية اليقين، أو: لكم دينكم المبني على الاستدلال، ولي ديني المبني على العيان. أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان، كما قال الشاذلي رضي الله عنه. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.